|

مجلة نبضات عربية مجلة نبضات عربية
قسم نشاطات مجلة نبضات عربية

آخر الأخبار

قسم نشاطات مجلة نبضات عربية
randomposts
جاري التحميل ...
randomposts

تنسيق وتعديل المدونة الكاتبة كريمة بوعريشة

سندريلا الإحساس

قصة أعياد اليتامى غالبا ما تكون على القبور- بقلم الأستاذ إبراهيم عمار

جاءنى صوت أمى آمرا وأنا بين اليقظة والنوم ،أشد علىّ لحاف الصوف من لسعة البرد التى تخترق فتحاته، أو بفعل جذب أخى الأصغر لطرفه وهى يتقلب بجوارى ، طول الليل كنت أسمع صفير الهواء يتسلل من فتحة ضلفة الشباك،وأوراق الشجرة العتيقة أمام البيت ، كثيرا ماأمرتنى بتسمير هذا الشباك وأنا أتجاهل قولها أو أنسى ربما....
لم أسمع آذان الفجر، لكنها طالما استيقظتْ فحتما قد أذن الفجر، هى عند كل فجر منذ أيقنتُ وجودها فى الحياة تقوم بمهامها المعتادة بالبيت من خبير وغسيل وطبيخ ، صعودا لطيورها بأعلى السطح وقد علا صياحهم مع أول ضوء للنور فى السماء ، صوتها مشيتها على درجات السلم كنت أتسمع وقعها وأترقب نزولها لتدب في البيت الحياة
جاءنى صوتها مجلجلا ووهى توقظ البنات اللائي غططن بنوم عميق ،تنادى عليهن واحدة تلو الأخرى، كانت طريقة المنادة تختلف بحسب كل يوم وكل موسم فموسم الدارسة وهوالأطول نسمع صوتها وكأننا نسمع جرس المدرسة قد رن فى آذاننا ، مهام كبيرة وكثيرة أمامنا من ترك الفراش الدافىء إلى لسعه البرد ، للحمام البلدى بنهاية البيت، شباك الحمام تتسلل منه كرابيج من لسعات الهواء ،ماء الحنفية مجمدا يتساقط على يدى أتماسك أحاول غسل يدى ووجهى ، ، لايزال أخى الأصغر تحت فراشه، فهو آخر من يستيقظ إنه صغيرها وأخر العنقود كما يقولون ، البنات قمن بمساعدة الأم حتى قبل غسل وجوههن، فهو يوم مختلف .
على غير العادة هذه المرة وخصوصا أننا فى يوم إجازة ومختلف عن كل الإجازات،أنه مع انطلاق صوت التكبيرات القادمة من المسجد العتيق، فقد تحول البيت فى لحظات لخلية نحل كل يجهز ويعمل حتى أخى الأصغر قام من نومته وذهب لغسل وجهه وعاد ليرتدى ملابسه ، ربما نكون قد تأقلمنا على هذا اليوم ، وربما هى بهجة يوم العيد منذ سنوات، أتذكرها لكن منذ عامين تبدل كل شىء وصار لهذا اليوم طقوس أخرى، كانت تتعالى صيحات التكبير ونحن نجهز شنطة الخبز وكعك المقابر الذى باتت ليلتها وبناتها فى خبيزه ،الفاكهة والفول السودانى والبلح، وجركن الماء.
غيوم سوداء فى السماء وحركة دائمة فى الأوراق المتبقية بغصون شجرة الجميزة التى تقف على عتبة البيت منذ سنوات، تساقطت أوراقها فى الخريف ، من بعيد تأتينى أصوات التكبيرات وأنا أستعد للخروج ، كانت أمى قد توشحت بردائها الأسود منذ رحيله ، لم يفارقها يوما ، أتذكر لون جلباب القطيفة السكرى الذى كانت ترتديه يوم جاءها الخبر فمزعته على صدرها وهالت عليه بالتراب ،البنات الصغيرات جدا قد صارتا كيمامتين يكسوهن الأسود ، من قال أن زهورا فى عمرهن يتوشحن هذا السودا فى يوم عيد ؟
وعلى أكتافهن شال من الصوف بينما أرتديت وأخى طاقية برقبة تحمى الأذن من صفير الهواء فى الطريق وقد حمل جريدة النخل الخضراء بعد أن نظفتُها له أمس من السلاع، اقتطعتها من النخلة التى زرعها أبى - رحمه الله - كما قال لى منذ طفولته وسط الدار.
لقد أصبح كل شىء مجهز الآن وعلينا أن نبدأ الرحلة قبل خروج الناس من الجامع ، فرصة تنتهزها أمى للخروج وهى وقت صلاة العيد والكل مشغول بالتكبير والتهليل والصلاة ،رجلا وأطفالا وشيوخا ،حتى لاتلاحقها عيون الحسرة والشفقة وربما الشماتة فى قليل
كانت الشوارع فارغة وقد فرشت بماء الحموم فأمام كل باب بيت رشت مياه معطرة برائحة الصابون ، إنه حمام صباحية العيد، قضين ليلة العيد بحضن أزواجهن ودفء أسرة أبنائهن وقمن فى الصباح بتجهيز الحمام الساخن ولبس العيد المزهر ثم يشرعن بتجهيز فُطرة العيد وقد عاد رجالهن وأبناؤهن من الصلاة وقد تعطرن وارتدين أزهى الثياب
أغلقت أمى الدار بقفل نحاسى قديم معلق مفتاحه برقبتها ومضينا، أحمل شنطة الزيارة ، وأمى جركن المياة ، بينما سعف النخل يزحف خلفنا نحو موقف سيارات الجبل على حافة القرية ، قرص الشمس لايزال محبوسا تظهر منه بعض الأشعة الضعيفة، يمكننا تمييز الطريق فى قريتنا ، يبتعد صوت التكبيرات كلما اقتربنا من موقف السيارات،الموقف خاليا تماما ، لحظات وقد مرت سيارة الجبل الكبوت دلفنا داخلها بسرعة فانطلقت تطوى الأرض تحتنا وتثير ترابا يتصاعد ، أتابع حركة السيارة وهى تتخطى الشوارع الكبيرة الترابية ، المدرسة الإعدادية ، ملعب الكرة ، أشجار السنط ، لايزال صوت التكبيرات فى أذنى يطن ، سقف السيارة الكبوت واطيا ، أتفادى مع كل مطب خبطة رأسى فى السقف الصاج ،تنحرف السيارة بنا وكأنها تتلوى كثعبان فى جوف الليل الذى لم يشرق نهاره بعد ،
فى الجبل الشرقى كان ينام وحده وقد غطاه التراب ، وقبرعلقت عليه قطعة من رخام تحمل اسم الأب والجد يسبقهما لقب المرحوم ، كانت الشمس قد بدأت أشعتها فتداعب العيون، ويظهر لنا ظلا يمتد ، جلست أمى وبناتها حول القبر، وقد نصب أخى الجريدة مشرعة فى شق بالآرض ، كانو قد بدأوا فى قراءة الفاتحة بينما كنت كنت أتابع قرص الشمس ، جاءنى من بعيد صوتها كترانيم حزن تبعث فى النفس الألم:
ولادك ولادك اللى إنت فايتهم
حود عليهم كمل ربايتهم
على العيد وأنا أجيهم
وأشوف مين عمل الجميل فيهم
بووووو
طنين يعلو صوته لحظة بلحظة، وأنا أشاهد أمى وأخوتى قد تلاحموا حول القبر يتدثرون من لفحة الهواء البارد يتمتمون بآيات القرآن والدعاء ، قطرات تنساب من عينيها كلما فاض الحنين ، لكنها بجسارة تبنى سدا يحول دون نهر من الدموع ، لايزال الصدى قادما من بعيد :
طريق الجوامع  تبكى عليه وتنوح
تبكى على من كان بيجى ويروح
أريد أبوى منشال فى قفة
والرأى منه والمشورى  تكفى
أريد أبويا ف بردتو  نعسان
والرأى منه والمشورى  للزما ن
أريد أبويا فى بردتو    نايم
والرأى منه والمشورى  دايم
كنت أجلس بحجرجلبابه الواسع، استعذب رائحة عرقه والمضغة فى فمه وعلى شاربه الذى إصْفرّ لونه ، أنظر لوجهٍ لفحته شمس الجنوب الحارقة فسوّته بقسمات خشنة، أطالعه كقمة جبل من فرط طوله وأنا بين رجليه ، بينما اعتدت صوته كعاصفة هوجاء تقتلع قلوب من حوله ، لاأنكر كانت تنتابنى قشعريرة ولكنى كنت أحس بالأمان، لم أعرف طعم الخوف أو الوحدة ، والقلق إلا بعد رحيله ، فلم أفهم ما كانت تعدد به المرأة العجوز وقتها لكنه أصبح واقعا ألمسه كل يوم :
خدنا معاك على طرف نبوتك
وإحنا صغار مانقدروا نفوتك
خدنا معاك على طرف مزراقك
وإحنا صغار مانحملوا فراقك
خدونا معاكم فى مخاليكم
والرأى معاى بس الوفا ليكم
من بعيد انطلق سرب من أطفال المقابر مهرولين نحونا ، وجوه صغيرة تعبر بخفة أسوار المقابر التى لاتتجاوز المتر، وسط العاقول الذى يفترش أرض المقابر وأسوارها ، غير مبالين بالشوك الذى يتمدد فى كل مكان ، زهر العاقول بلا رائحة ، هنا فقط تشم رائحة الموت ، تتشابه وجوه الأولاد بسمار عفّرته تربة الجبل الصفراء ، قامات قصيرة دقت عظامها ، وأنوف مفلطحة تشبه أنوف الزنوج ،أجساد أنهكها الضعف، تلمح فى عيونهم وابتساماتهم براءة يكسرها العوز،استعدت أمى باستخراج كعك المقابر والفاكهة والفول السودانى والبلح، كان هجوم الأولاد قويا كل واحد منهم يحاول أن ينتزع نصيبه قبل الآخر، يتنافرون فيزيج كل منهم الآخر عن طريقه فى تزاحم شديد رغم قلة أجسادهم،لكننه كان كهجوم جراد كاسح يلتهم كل شىء أمامه
خفت على والدتى وأخوتى فاقتربت لأنظم عملية التوزيع ،ناهرا إياهم ، ومنظما لوقوفهم بالدور، مطمئنا لهم بأن الجميع سيحصل على نصيبه، كانت أمى توزع خبزها بمهارة فائقة بينما كانت البنات تلقى بحجر الآولاد الفاكه، لم يلتفت الأولاد للبلح والفول السودانى بيد أخى الصغير ،معلق بجانب كل واحد منهم مخلاة من القماش برباط على كتفه ، تختلف أشكالها وأحجامها ولكن تتماثل بها بقع الزيت والأوساخ التى تعتريها مما تم حشوها به خلال تنقلاتهم من مقبرة لأخرى.
قد تشعر هنا للحظة أنك الأفضل ربما من حال هؤلاء، فيضيع ضجرك وغضبك، يقل حنقك، وأنت تشاهد صفحة السماء وقد لاحت بها أشعة الشمس أتخيل قريتى فى تلك اللحظة ،وقد خرجنا منها ليلا على حين غفلة متخفين عن الناس، هاهم قد أنتهوا الآن من صلاتهم فخرجوا لتتلاقى كفوفهم وربما أحضانهم يتباهون بجلابيب الصوف الإنجليزى المعتبر وعمائم بيضاء مزهرة والأولاد بجلابيب سكرتة ناصعة البياض ينتظر كل منهم عيديته، يتنقلون من بيت لبيت من عم لخال
أذكر ذلك جيدا ، كان يصيبنى الملل من كثرة السلام والأحضان ربما لانمشى مترا حتى يٌوقفه هذا أوذاك ، يسأل عنهم واحدا واحدا الحاضر والغائب ، مايلبث أنْ يدلفَ للشارع الخلفى يمر على عمّاتى واحدة فواحدة ثم بنات عمه ومنه يسارا إلى بيت جدى لأمى فيمر على خالاتى ،لايخلو الطريق من أحباب وأصدقاء ،كان الأطفال يهللون بمقدمه فى كل بيت، إذ تنهال عليهم العيدية يعطى للذكر مثل حظ الانثتين ، وللكبير ضعف الصغير
أسير معه مأمورا بينما فى شوق للعودة للبيت لأشاهد الخروف قبل الذبح ، لكنه كان يحسب الوقت بدقة متناهية، عم فؤاد يعرف جيدا عادته وطقوسه ولن يعود ليشهد الذبح إلا بعد طوافه المعتاد بالآهل ثم يكون طوافى أنا وأخوتى باللحم على كل البيوت التى زارها ، لم أكن أفهم الرسائل وقتها بشكل جيد ، لكننى وعيت تماما كل شىء فيما بعد.
كان مشهد الذبح رائعا ، كنت أعلم مصير الخروف قبلها بشهور طويلة ،،إذ يعقد عليه النية من بين خراف الحوش ويعتنى به عناية فائقة، وفى أخر شهرين يعزله عن النعاج وباقى الماشية لايأكل إلا الفول والذرة ، أساعده فى غسيل فروته مرة كل أسبوع ،كانت أمى تعتنى بالتنظيف تحته، عم فؤاد يعرف نظامه جيدا فيجمع الكبد والطحال والقلب والمخاصى ويضعهم فى حلة خاصة تأخذها أمى، ولحظات ونشمُّ معا رائحة تشويح الكبدة والمخاصى بالبصل، فهى فطارنا عقب الذبح و السلخ والتقطيع ، ثلث وثلث وثلث يساوى بينهم ، يضع ثلثا بجواره وينظر للثلثين يرفع منهم عظما ودهنا ويضيف لحما ينكمش الثلث بجواره ، حتى يقول له عم فؤاد
: وإيه اللى بقيتو منها للولاد
فيرد : باقى منها الكتير يافؤاد
يمصمص عم فؤاد شفتاه الغليظتنان ويقول : ياريت يتمر ياحج
فيرد عليه: لو متمرش فيهم، حيتمر عند ربنا فى دولا
ويمسك برأسى وأخى وتتسع مساحة الابتسامة على وجهه
على حمار ضامر مخضب الذيل، جاء من بعيد وقد تجلدت على عظام وجهه قشرة من السواد برزت منه خيوط الدم الجاف المتصلب فى عروقه منذ أمد بعيد ، ينزل تِليسا من الصوف له فتحة من المنتصف ،فصار كحملين على حماره ، زادته أمى خبزا وفاكهة وتهللت بمقدمه ، وقالت كان أبوك يعطيه إذا ما زار والديه، مد يده لى فمنحته جنيها فقبل يدى قبل أن أشرع فى سحبها من يده الخشنة وأظافر طويلة يحشوها وسخ قديم.
كانت أمى تلم ما بقى من الزيارة وتستعد للرحيل ، جركن الماء تدور به حول القبر، توقن أمي أن كل ما وزع من طعام وما سُتروى به التربة من شراب حتما سيصل له تحت التراب ، بينما كنت أقول لها أن هذا الماء سيتسبب فى انتشارالعاقول هنا الذى صار يتمدد فى كل مكان ،ينمو بسرعة فائقة ، فقالت إن العاقول حراس للمقابر تشرب من ثرى التربة ، فكرت مرة أن أشعل به نارا حتى نوسع لأنفسنا مكانا للجلوس فى المرة القادمة ، فنهرتنى وقالت أن هذا المكان تحوطه الملائكة فإن اشعلت نارا هربت منه الملائكة وحزن الأموات
كان طريق العودة صعبا رغم خفة الحمل ، لكنه كان قد أشعل فى النفس الذكريات ، ألم الفقد ، تعثرت قدم أمى مرات فى التراب ، طريق طويل من المقبرة للأسفلت على الطريق السريع ، شمس الشتاء لاتشعر بها إلا حينما تتعرى القلوب وتحتاج للدفء ، أمسكتُ يدها وحملت عنها حملها ، كانت تظرى لى وقد شب كتفى عن كتفها شبرا، فامتلآت عيونها ابتسامة رضا ومضت
القاهرة في
شتاء 2014

زائرنا الكريم : رجاءآ لاتنس الاشتراك بقناتنا تشجيعآ لنا لتقديم الافضل وحتى يصلك كل جديد
  
شكرا لك .. الى اللقاء 
*
*
بقلم : كريمة بوعريشة

بقلم : كريمة بوعريشة

مدونة خاصة بالأدب والشعر وفنونه.

  • لاتنس الاعجاب بصفحتنا عبر الفيس بوك لمتابعتة كل جديد وايضا من اجل التواصل معنا بشكل مباشر ومستمر.

    تابع
  • يمكنك الان متابعتنا عبر جوجل بلاس وارسال مقترحاتك وايضا حتى يصلك جميع الموضوعات الحصرية فور نشرها.

    تابع
  • تواصل دائما مع اصدقاء يشاركونك نفس الاهتمامات وذلك من خلال متابعة صفحتنا الرسمية عبر تويتر.

    تابع
  • يسعدنا أن تكون احد افراد عائلة ومحبى قناة رؤيا للمعلوميات وذلك عن طريق الاشتراك فى قناتنا على اليوتيوب.

    تابع

مدونة مجلة نبضات عربية ترحب بكل زوارها وتتمنى أن تضعوا رأيكم حول كلماتها المتواضعة ,

جميع الحقوق محفوظة

مجلة نبضات عربية

2018